أشرف رشاد يكتب: رحلة في الوجدان (1) دير مار جرجس
ثمّة تشابه بين التصوّف في المسيحية والإسلام، لا يتوقف فقط عند المعنى بل يمتد للمبنى
يطيبُ لي هذا الأسبوع مع أعياد إخوتنا في الوطن أحباب سيدنا المسيح عليه السلام، أن أبعث لهم بأرق وأرقى التهاني، بهذه المناسبة الطيبة، فالعلاقة معهم علاقة شراكة، وذمة ورحم، علاقة مودة وثقها القرآن الكريم في قوله جل وعلا: (.. وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ).
لقد استحضرتْ زيارتي للكاتدرائية المصرية قبل ساعات من كتابتي هذه السطور وأنا استمع مع وفد رفيع المستوى من مجلس النواب المصري برئاسة المستشار حنفي الجبالي، إلى قداسة البابا تواضروس الثاني، بابا الأسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية وهو يتحدث عن متانة النسيج المصري، مواقف عدة.
منها أن ثمة اختلاف ظاهري بين التصوف في المسيحية والإسلام، بينما يبرز التشابه بينهما في مواطن كثيرة أهمها، الزهد، والإستغراق الوجداني، وإعلاء قيم التسامي والتسامح والعشق.
يقول سيخ الصوفية الأكبر الإمام محيي الدين بن عربي: “أن سيدنا المسيح كان يرتدي عباءةً مرقّعةً من الصوف، كما اعتاد المتصوّفة الذين يرتدون الثياب المرقّعة كنوعٍ من التشدّد في الزهد”.
وهناك قصّة رواها أكثر من صوفي بارز، على سبيل المثال رواية صاحب كتاب “الإحياء” الإمام أبو حامد الغزالي، مفادها أن سيدنا المسيح عليه السلام كان يضع رأسه على صخرة، جاعلاً منها وسادة، وكلما مرّ عليه الشيطان يقول له: “أرى أنك ما زلتَ ترغب في شيء ما بالعالم”، فيلقي سيدنا المسيح الصخرة في وجهه، ويقول له: “خذها إلى جانب بقيّة العالم!”.
أيضًا ثمّة تشابه آخر بين التصوّف في المسيحية والإسلام، لا يتوقف فقط عند المعنى بل يمتد للمبنى، فكما شُيّدت مراقد ومشاهد الصوفية في الإسلام على شكل قباب، أيضًا على نفس الصورة شُيّدت أديرة رموز المسيحية، وهنا فإنه تحضرني مشاهد قباب دير مار جرجس بقرية حاجر المحروسة بمحافظة قنا.
ففي صعيدنا الطيب أقصى جنوب الوطن مصر، تتشابه أيضًا صور وأشكال الإحتفالات الصوفية مع الإحتفالات المسيحية، فإن من أبرز مظاهر الاحتفال بموالد أكابر الصوفية، حفلات الإنشاد الصوفي في الساحات، وإطلاق البخور، وإشعال الشموع، في أضرحة ومقامات الصوفية، وفي نهاية الذكرى نشاهد ما يعرف بموكب «التُوب» الذي يخرج فيه خليفة الولي الصوفي راكبًا حصانه المزين وعمامته الخضراء، ويتجمع الناس حوله في شكل زفة بالمدائح و روائح البخور، في مشهد مهيب يصطف فيه المارون على جانبي الطريق وسط زغاريد النساء من شرفات منازلهم المطلة على الموكب، وهو ما يتجلى بوضوح في مشهد الإحتفال بمولد سيدي عبدالرحيم القنائي، نجد أيضًا وعلى الناحية الأخرى من النهر احتفالات متشابهة بعيد مار جرجس بقرية المحروسة غرب النيل.
فنجد برنامج احتفالات النهضة الروحية بعيد مار جرجس بالدير تبدأ بـ “تسبحة العشية” في الرابعة والنصف إلي السادسة مساءً، يعقبها صلاة رفع البخور من الساعة السادسة إلي السابعة مساءً، ثم تقوم كورالات كنائس الأيبارشية بتقديم باقة من الترانيم والألحان الروحية، يعقبها عظة روحية ثم يليها تمجيد للقديسين وفي نهاية الذكري تخرج “الدورة” التي تشبه مسيرة التوب عند الصوفية, و تطوف أرجاء الدير برفاة الثلاثة شهداء القديسين وهم (مار جرجس الروماني، ومار جرجس المزاحم، ومار جرجس السكندري).
يقع دير مارجرجس على مسافة 2 كم غرب قرية المحروسة (البلاص) والتي تبعد 18 كم جنوب قنا، في طريق نقادة، ولهذا الدير قصة تروى:
يعد دير المحروسة من أقدم الأديرة الموجودة بإيبارشية قنا وتوابعها، و قد سُمِّىَ على اسم الشهيد العظيم مارجرجس، ويرجع بناؤه إلى عصر الملك قسطنطين والملكة هيلانة التي كانت مهتمة ببناء وتعمير الأديرة.
أمّا لماذا سُمِّى بدير مارجرجس المحروسة، فإنه جاء نسبة إلى القرية التي يقع بها، وهي قرية المحروسة التابعة لمدينة قنا، شيء مثير يجمع بين الدير ومراقد الأولياء الصالحين في الإسلام، القباب، لتجسد بصورتها التي عليها شكلًا من أشكال التشابه الفريد في التشابة الوجداني بين التصوّف في المسيحية والإسلام.
إلى أشقائنا في الوطن والوجدان.. أحباب سيدنا المسيح عليه السلام، كل عام وأنتم بخير.