أشرف رشاد يكتب: رحلة في الوجدان(2).. الإمام المناضل أبوالوفا الشرقاوي
تفاصيل الدور البارز الذي أثرى به الحركة الوطنية المصرية في النضال ضد الاستعمار البريطاني والمطالبة بالاستقلال
كثير منا، يترنم مع الأناشيد الصوفية دون أن يتوقف عند كثير من مفرداتها، يُطرب فقط بـ” الحال” الذي يخلق حالة من “الوجد” على المتلقي، فيهيمُ طربا.
و”الوجد” مفردة صوفية تصف ما يجده الشخص من حلاوة وذوق، نتيجة “الحال” الواردة عليه، ولهذا صار هناك تلازمًا بين “الحال” و”الوجد” في الصياغات الصوفية، تلازم ذاتي لايمكن فصل أي منهما عن الآخر بسهولة.
أي أنه إذا وجد “الحال” ترتب عليه “وجد”، ومن هنا يكون “الحال” هو ما يرد على القلب من خوف، أو بسط، أو قبض، أو شوق، أو ذوق.
أما “الوِجْدَان” فهو المصدر من وَجَدَ، و “وِجدانُ المرْءِ” هو نفسه، أو بمعنى آخر هو قوَاه البَاطنيةُ، وقواه الباطنية تلك هي مجموع الأحاسيس والانفعالات و العواطف و الاتجاهات و الميولات التي يتفاعل معها الشخص أو يَتَأَثَّر بِهِا، مِنْ حب أوكراهية أوتعاطف أولَذَّةٍ أَوْ أَلَم أو ميل أو نفور، إلى آخره من الأحاسيس الإنسانية المختلفة.
من ذلك كانت السلسلة الجديدة من إطلالتنا الإسبوعية هنا، لتكون رحلة في “الوجدان”، أي فيما يختلج في النفس من مشاعر أو أحاسيس، تجاه، أمر أو شخص أو مكان، على أنني هنا ساقتصر في رحلتي الوجدانية على أشخاص أو أماكن كان لها تاريخنا القنائي أثر الأصر النفيس على النفوس، وما يزال عبيرها يطيب الذكريات، من حسن ما فعلوا أو ما تركوا من مآثر طيبة في الوجدان، سواء الوجدان الشخصي لي، أو الوجدان الشعبي لمجتمعنا القنائي ككل.
هذه المقدمة السابقة، كانت ضرورية، لأن تكون مدخلًا لوصف المصطلح الذي سيستمر معنا في هذه السلسلة كعنوان لصدر المقالات القادمة، أم عجز العنوان، او ألفقرة الثانية منه فستكون لموضوع المقال.
ورحلتنا في “الوجدان” هذا الاسبوع ستكون عن الإمام الشيخ أبو الوفا الشرقاوي الحسنى نسبًا، المالكى مذهبًا، الخلوتى طريقة ومنهاجا.
وقد دونت كتب التاريخ الكثير عن سيرة ومسيرة مولانا الشيخ الشرقاوي، فأشارت إلى أنه أحد الأقطاب الصوفية الكبار بمحافظة قنا، والمولود يوم 7 مايو سنة 1879، الموافق 17 جمادى الآخرة سنة 1296 هجرية، قبل أن يتلقى العلم على يدى والده وبعض مشايخ الأزهر الشريف، الذين كانوا على صلة وطيدة بوالده، فيما استوطن أجداده قرية “الخلفية” قرب مدينة جرجا، قبل أن ينتقل جده السادس الشيخ عبدالسلام جامع، إلى قرية “دير سوادة” في مركز فرشوط بمحافظة قنا.
وتستمر الذاكرة الصوفية في سرد سيرة مولانا الشيخ ابو الوفا الشرقاوي، فتقول أنه تربى فى حجر والده وأخذ فى حفظ القرآن الكريم بمكتبة نجع حمادى، ثم بمكتبتى فرشوط وبهجورة، إلى أنه أتمّه حفظًا وتلاوة، وتدبرًا وعبادة.
نشأ الشيخ أبوالوفا الشرقاوي على الصلاح والتقوى وطاعة الله وحب الخير والفضيلة، فكان لمريديه وأحبابه نعم الشيخ والمربي، ومن هنا حرص مريدوه على اتباع إرشاداته والاقتداء بأعماله، والسير على منهاجه لما عُرف عن سماحته من غزارة في العلم وإخلاص فى الدين، وتقوى في المعيشة وخشوع في دفع الناس إلى الحب والصلاح.
وقد كان والده عليه رحمه الله الإمام أحمد بن شرقاوي من أهل التصوف وأئمته الكبار، وهو صاحب الفضل الأول في اتباع نجله الشيخ أبو الوفا لمنهاج الصوفية، والسير على طريق الشرع القويم، فجمع الشيخ أبو الوفا الشرقاوي عليه رحمه الله، بين علوم الشريعة التي اختص بها العلماء، وعلوم الحقيقة التي اختص بها الأولياء، ومن قول الشيخ أبو الوفا فى ذلك نصيحة كتبها لمريديه فى آخر حياته: «تركت فيكم طريقا صافية نقية وخلفت لكم سبيلا مؤسسا على القواعد الشرعية، لا يسطو عليه دخان البدائع، ولا تخفى معالمه سفسطة المنازع، تشهد بصحته الآيات القرآنية وتنطق بمدحته الأحاديث النبوية».
من هنا حضرت شخصية مولانا الشيخ أبو الوفا الشرقاوي في الوجدان هذا الأسبوع، لنتنسم منها جميل قوله، وحسن فعله، واقتفاء أثره، فيما تركه لنا من نسمات ونفحات، أضاءت وما تزال طريق الصفاء والخشوع للسائرين في دروب الإنسانية.
ويحضرني هنا قول العالم الجليل فضيلة الدكتور أسامة الأزهري المستشار الديني للسيد رئيس الجمهورية وهو يتحدث عن مولانا الشيخ أبوالوفا الشرقاوي، فيقول: ” إن فضيلة الشيخ الشرقاوي من الشخصيات التي حفرت أثرًا حميدًا في تاريخ الوطن على المستويين الإسلامي والإنساني، وكان له حضور إيماني ونوراني يتناقله أتباعه حتى الآن.. لما كان فيه من نبل وانتماء لهذا الوطن، الذي ارتبط فيه بعلاقات عميقة برموز السياسة والفكر والوطنية، لما لمسوا فيه من سلامة المنهج، ووضوح الرؤية، ونبل المقصد”.
وفي حياة رموز التصوف الكبار في التاريخ المصري، محطات بارزة على طريق النضال في قضايا التحرر الوطني، سيأتي ذكرها في مواضع قادمة ان شاء الله، أما القطب الكبير الإمام أحمد أبوالوفاء الشرقاوي فأنه يجدر هنا ونحن في مقام الحديث عنه أن ندلف إلى الدور البارز الذي أثرى به الحركة الوطنية المصرية في النضال ضد الاستعمار البريطاني والمطالبة بالاستقلال، إذ شارك وجاب بلدان الصعيد مع الزعيم سعد زغلول في رحلته إلى الصعيد بالباخرة نوبيا سنة 1924 ميلادية من القرن الماضي.
فلم تكن حياة الإمام الشيخ أبو الوفاء الشرقاوي قاصرة على التصوف، ولكنه كان عالما فذا ووطنيا رائدا فى ثورة 19١٩وجاهد فى سبيل استقلال مصر من الإحتلال الإنجليزي، وكان مهتما بالشأن الإنساني فى شتى أنحاء العالم، فسافر إلى كثير من دول العالم العربية والغربية لمؤازرة القضايا الإنسانية في تلك البلاد، وكان يتمتع بروح التسامح والإخاء مع أصدقائه الأقباط بشكل خلق بينه وبينهم ألفة من طرازٍ خاص.
عندما ترصد سيرة الشيخ.. تندهش من بقائها حية يانعة متداولة حتى الآن، ففي المتاجر ترى صورته تزين الجدران، وفي جلسات الصوفية لا تخلو الحلقات من الإستشهاد بقوله، وفي مجالس الساسة لا تغيب مواقفه وثوابته في قضايا النضال والتحرر الوطني، وبين الأقباط يُستشهد بسماحته، ومآثره وشجاعته.
وقد لقبه الشيخ حسنين محمد مخلوف مفتي الديار المصرية الأسبق وعضو جماعة كبار العلماء بـ إمام الواصلين ومربي المريدين وصفوة العارفين والعالم الزاهد الحجة والمميت لما فشا من البدع، وهنا فإننا أمام حالة نقية صافية من المنهج الرباني البعيد عن البدع والشعوذة، ومن ذلك قال الدكتور أسامة الأزهري إن الشيخ الشرقاوي إمام كبير يستحق ان يفخر به كل أبناء الصعيد.
أشرف رشاد