♦️أشرف رشاد يكتب: من خادم المقام لصاحب المقام
من خادم المقام لصاحب المقام
هل تتخيل معي عزيزي القارئ كيف لرجل، أن يترك بلاده في أقصى بلاد المغرب العربي، تحديدًا منطقة سبتة الأندلسية، التابعة للمملكة المغربية الواقعة الآن تحت الاحتلال الأسباني، ليستقر في مدينة قنا بأقصى صعيد مصر، تاركًا كل شيء وراءه، فقط ليبقى بيننا إلى وفاته..؟!
هل تتخيل، أن أندلسيًا، ذاع صيته كواحد من أكابر علماء القرآن والتفسير والحديث في عصره، يطلبه أهل المغرب، وأهل الشام، وأهل الحجاز، لكنه فقط يستجيب لأهل قنا أن يستقر به المقام بينهم، دون غيرهم..؟!
وهل تتخيل أن مدينة “سبتة” التي حفظ فيها القرآن على يد والده وهو صغير، يؤثر عليها قنا التي أتاها وهو كبير ؟!
وهل تتخيل، أن “الشام” التي بها أخواله وعندهم أتم علومه في التفسير والحديث، أن يتركها ويختارنا؟!
لقد قال له الإمام القشيري عندما التقاه بالحجاز أن “قنا” هي الأكثر احتياجًا لعلمه من “سبتة” و “الحجاز” و” الشام”؟!
فما الذي يدفع الإمام القشيري إلى هذا القول، بأن أهل قنا أكثر احيتاجًا له من أهل تلك البلاد؟
ثم كيف يستجيب لذلك ويختارها مستقرًا له حتى وفاته، فيُعرف بهم، ويُنسب إليهم، دون أن يُنسب إلى بلاد الأندلس التي ولد فيها وفيها حفظ القرآن وبها أهله، أو يُنسب إلى بلاد الشام التي بها أخواله وبها تلقى معظم علومه، أو يُنسب إلى بلاد الحجاز التي قضى بها عشرة أعوام من شبابه..؟!
لهذه الاسباب انحنى أدبًا أمام مقامه الجليل
فهناك أمور كثيرة تجعلني أتأمل من جديد حياة مولانا الإمام، العالم الجليل، الأسد القنائي، سيدي عبد الرحيم.
عندما التقى الإمام القشيري بسيدنا الإمام عبدالرحيم القنائي في الحجاز، طلب منه “القشيري” أن يذهب معه إلى مدينة قنا أو مدينة قوص، لحاجة أهل تلك البقاع من صعيد مصر إلى علوم الشيخ الأندلسي الكبير.
سيدي عبد الرحيم القنائي أو عبد الرحيم القناوي، ليس وفقط متصوف شهير، تهفو إليه قلوب المحبين، انما هو عالم دين وتفسير مغربي شهير لمع اسمه في عصره والعصور التي تليه كواحد من أكابر علماء الاسلام المعروفين.
السيد عبد الرحيم بن السيد أحمد بن السيد حجون الذي ينتهي نسبه إلى الإمام الحسين سمي واطلق على نفسه “عبد الرحيم” طمعا لما عاينة من وصف الرحمة.
أمضى طفولته في تحصيل العلم في جامع ترغاي الكبير بمنطقة سبتة الاندلسية بالمغرب العربي على يد والده، كما تتلمذ على كبار العلماء فلم يكد يصل الثامنة من عمره حتى كان قد حفظ القرآن الكريم وجوده تلاوة وفهما.
توفى والده وهو في سن الثانية عشر، لذلك مرض مرضا شديدا حتى حار الأطباء في علاجه وأشار بعض منهم إلى أنه يجب أن يغادر البلاد ليروّح عن نفسه من فقده والده.
قضى سيدي عبدالرحيم في دمشق ثمانى سنوات نهل فيها من علماء دمشق وقد بدا لهم ذكاء السيد عبد الرحيم وسرعة بديهته وحفظه وميله إلى التصوف فطلبوا منه وهو في سن العشرين أن يلقي الدروس فأبى تواضعًا وذلك أدبا منه لما يعرفه من قدر علماء دمشق.
وقتها.. قرر العودة من جديد إلى مسقط رأسه في بلدة ترغاي بمدينة “سبتة” بالأندلس.
في ترغاي وجد مكان أبيه في الخطابة والافتاء شاغرا لم يقدم أحد على شغله، لمعرفة مكانة الشيخ وأن ليس فيهم من يستحق هذه المكانة.. فاجتمع علماء ترغاى واصروا على احلال السيد عبد الرحيم مكان أبيه، فكان لهم ما طلبوا.
وفي أول درس يلقيه الشيخ.. تكدس الناس لما بدا لهم من غزارة علم السيد عبد الرحيم الشيخ الصغير ذي العشرين عاما، فذاع صيته وتوافدت عليه الناس من البلاد المجاورة للاستماع اليه.
قضى السيد عبد الرحيم خمس سنوات على هذا النهج وما يقوم به من مهمة الوعظ والإرشاد عن واجبات المسلم نحو ربه ومجتمعه بأسلوب ساحر أخّإذ أبكى المستمعين تأثرا وإعجابا.
على أن أحداث المشرق العربي في ذلك الوقت من تكتل قوى الاستعمار الأوروبي، للهجوم على بلاد المشرق واستعمارها كانت تشد تفكيره بقوة إلى المشرق.
كان يرى انه يجب أن تكتل كل قوى المفكرين من المسلمين لحماية الدول الإسلامية ضد الاستعمار الاوروبي.. بضرورة تعبئة كل القوى المادية والمعنوية لحماية أهل الشرق العربي من التفكك والضعف والانحلال الذي أوشك أن يصيبها.
في تلك اللحظة توفيت والدته ولم يكن سيدي عبدالرحيم قد تزوج بعد، فليس له زوجة بالبلاد ولا هناك صغار يسعى في تربيتهم، الأمر الذي جعله بالإضافة إلى الأسباب السابقة يفكر في الرحيل إلى بلاد الشرق.
قرر السيد عبد الرحيم الاتجاه إلى الحجاز ليؤدى فريضة الحج لانه لم يتسن له أداؤها عندما كان بدمشق.. وحتى يلتقى هناك في موسم الحج بعلماء المسلمين لمناقشة جوانب مشاكل العالم الإسلامي، وبعدها يرى إلى أين يوجهه المولى عز وجل.
غادر مولانا الجليل سيدي عبدالرحيم منطقة “ترغاي” متوجها شطر الحجاز لتأدية فريضة الحج، وفي طريقه مر بمدينة الإسكندرية والقاهرة فتركا في نفسه أثرا كبيرًا.
أثرًا لم تمحه روحانيات رحلته المقدسة إلى البلاد الحجازية طوال مدة تسع سنوات قضاها متنقلا فيها بين مكة والمدينة ينهل من علم وفضل فقهائها وعلمائها تارة وعابدا معتكفا بالبيت الحرام أو بمسجد المدينة تارة أخرى، أو متنقلا يسعى في مناكبها للاتجار في بعض المحاصيل سعيا وراء كسب الرزق حتى يستطيع التفرغ للعبادة والعلم دون أن يمد يده للاستجداء أو أن يكون عالة على أحد.
ثم جاء موسم الحج العاشر له، فالتقى بمكة مع واحد من الشيوخ الأتقياء الورعين القادمين من مدينة قوص عاصمة صعيد مصر في ذلك الوقت وهو الشيخ مجد الدين القشيري، ودار بينهما حديث الروح والقلب
فتعارفا وتآلفا..
حتى أصر بعدها الإمام القشيرى أن يصحب سيدي عبد الرحيم إلى مصر أو إلى قوص أو إلى قنا.. حيث أن مجتمعها متعطش إلى علم وفضل أمثاله.
في ذلك يقول الإمام السيوطي: “وما زال الشيخ القشيري يحاوره ويدلل على حججه وعلى أن من واجب سيدي عبدالرحيم الإسلامي الإقامة في قوص أو قنا ليرفع راية الإسلام وليعلم المسلمين أصول دينهم وليجعل منهم دعاة للحق وجنودا لدين الله.
وافق سيدي عبد الرحيم على الرحيل إلى مصر فجاء بصحبة الشيخ مجد الدين القشيرى الذي كان يعمل حينئذ إماما بالمسجد العمرى بقوص وكانت له مكانته المرموقة بين تلاميذه ومريديه.. كان ذلك في عهد الخليفة العاضد بالله آخر خلفاء الدولة الفاطمية، لكن سيدي عبد الرحيم لم يرغب في البقاء بقوص وفضل الانتقال لمدينة قنا تنفيذا لرؤى عديدة أخذت تلح عليه في الذهاب إليها والإقامة بها ولأن قوص ليست في حاجة شديدة إليه فقد كانت وقتها مليئة بالعلماء والفقهاء وكبار المفكرين من أهل الدنيا والدين.
بعد أن أمضى سيدي عبد الرحيم ثلاثة أيام بقوص رحل إلى قنا حيث التقى بالشيخ عبد الله القرشي أحد أوليائها الصالحين فانعقدت أواصر الألفة بينهما وتحابا وتزاملا في الله.
وقد ساعد جو قنا الهادئ الشيخ عبد الرحيم على حياة التأمل فأمضى عامين كاملين يتعبد ويدرس ويختلي بنفسه ليتعرف على خباياها ولا يقطع عليه هذا الاختلاء وذاك التعبد إلا خروجه للتجارة التي يعتمد عليها في معاشه، فقد كان رحمه الله قد اتخذ لنفسه منهاجا لا يحيد عنه طوال حياته، وهو العمل بيده حتى يكسب قوته.
خلال تلك الفترة صدر قرار من والي مصر بتعيين سيدي عبد الرحيم شيخا لقنا وأصبح من ذلك اليوم يسمى بالقنائى.
ولما تولى الأيوبيون مقاليد الأمور في مصر، عملوا جاهدين على القضاء على المذهب الشيعي السائد في عهد الدولة الفاطمية ونشر المذهب السني وكانت وسيلتهم في ذلك تولية شؤون البلاد وحكمها لأصحاب المذهب السني وخاصة المذهب الشافعي، مذهب الأيوبيين الخاص.. فأصدر العزيز بالله ابن صلاح الدين الأيوبي قرارا بتعيين سيدي عبد الرحيم شيخا لمدينة قنا.
درت عليه التجارة في قنا ربحا وفيرًا ساعده على الإنفاق على فقراء الطلاب والراغبين في العلم وغير القادرين من أبناء المسلمين.. وقد كانت لسيدى عبد الرحيم مدرسته الصوفية الخاصة التي تسمح لمنتسبي الطرق الصوفية الأخرى بالأخذ منها من غير الخروج عن طرائقهم .
رضي الله عن صاحب المنهج القويم مولانا وسيدنا سيدي عبدالرحيم
أشرف رشاد