إبداعالشارع السياسيديوان المشاهير
أخر الأخبار

أشرف رشاد يكتب: شعراء قنا الثلاثة… فرقهم الممات وجمعتهم الكلمات

 

ثلاثة.. خرجوا من هذه الأرض، في المسافة ما بين قنا المدينة، إلى قرية القلعة بمركز قفط، مرورًا بقرية أبنود، فشكّل كل واحد منهم، جزءًا من وجدان المجتمع على طريقته في حب الوطن، حتى خلدتهم وتخلّدت أعمالهم، فصارت وصاروا علامة من علاماته.

من قنا انطلقوا.. ومنها ربطوا .. حبل الابداع على صلب الوطن ، فغنّى بصوتهم وشعرهم.. ونظمهم.. أعظم أناشيده قبل وأثناء وبعد نصر اكتوبر.

مع الثلاثة الذين شكلوا الجزء الأكبر في القصيدة الوطنية.. أمل دنقل، شاعر الرفض والثورة، وعبدالرحمن الأبنودي شاعر الطين والربابة، وعبدالرحيم منصور شاعر الحب والغربة.. نغوص معكم في ذاكرة قنا التي سجّلت أعظم الملاحم الشعرية في حب الوطن. 

فهدا أمل دنقل.. الجنوبي.. الزرعة التي أثمرت أعظم قصائد رفض نكسة 1967 انطلاقًا من قرية القلعة، والذي كانت بدايته الحقيقية مع الشعر عام 1969 حين كتب «البكاء بين يدي زرقاء اليمامة»، وهو الديوان الذي جسد فيه الشعور العربي المحتقن عقب النكسة.. يقول في قصيدة “البكاء بين يدي زرقاء اليمامة”:

” أيتها العرافة المقدسة
جئت إليك مثخنًا بالطعنات والدماء
أزحف فى معاطف القتلى وفوق الجثث المكدسة
منكسر السيف، مغبر الجبين والأعضاء
أسأل يا عذراء عن فمك الياقوت
عن نبوءة العذراء
عن ساعدي المقطوع
وهو ما يزال ممسكًا بالراية المنكسة)

فيبكي معه تأثرًا بتلك النكسة التي هزت الوطن العربي صديقه ورفيق مشواره عبدالرحمن الأبنودي بقصيدة “عدى النهار” التي غناها العندليب عبدالحليم حافظ فيقول فيها:


( عدّى النهار و المغربية جايّة
تتخفّى ورا ضهر الشجر
و عشان نتوه فى السكة
شالِت من ليالينا القمر
و بلدنا ع الترعة بتغسل شعرها
جانا نهار مقدرش يدفع مهرها
يا هل ترى الليل الحزين
ابو النجوم الدبلانين
ابو الغناوي المجروحين
يقدر ينسّيها الصباح
ابو شمس بترش الحنين
أبداً بلدنا ليل نهار
بتحب موّال النهار
لما يعدّي فى الدروب
و يغنّي قدّام كل دار )

وتمر سنوات قليلة يخوض فيها جنود الوطن حرب الاستنزاف، استعدادًا لساعة الصفر في السادس من اكتوبر 1973، التي كتم فيها الوطن أنفاسه، وما إن دقت ساعة الجهاد حتى هتف الشاعر القنائي عبدالرحيم منصور اغنيته العظيمة:

( بسم الله الله أكبر بسم الله بسم الله
بسم الله أذن و كبر بسم الله بسم الله
نصرة لبلدنا .. بسم الله بسم الله
بإيدين ولادنا .. بسم الله بسم الله
و أدان ع المدنة .. بسم الله بسم الله
بتحيي جهادنا ..  بسم الله بسم الله
الله أكبر.. أذن و كبر
و قول يا رب النصرة تكبر
بكفاحنا يا مصر .. بسم الله بسم الله)

الشاعر القنائي عبدالرحيم منصور هو من مواليد قرية دندرة في 15 يونيو 1941 ، وتعد نشأته هي المؤثر الرئيسي في كتاباته حيث كانت والدته تغني الأناشيد أمام الفرن لتضييع الوقت ومنها التقط حاسته الشعرية.

انتقل للقاهرة في ستينيات القرن الماضي، وأشتهر بكتابة الشعر العامي الذي قال عنه في لقاء تليفوني نادر أن كل قصائده التي يكتبها هي في حب الوطن، حتى وإن بدت في ظاهرها غير ذلك، فالمعنى الحقيقي للقصيدة في بطن الشاعر.

بداية اكتشافه كانت على يد الكاتب الكبير لويس جريس، أثناء جولته فى جنوب مصر لاكتشاف المواهب لتقديمها فى مجلة «صباح الخير»، تحت عنوان «المعذبون بالفن»، فعثر على كنز من المواهب الذي قدمته المجلة.

هذا الكنز الذي عثر عليه لويس جريس كان ثلاثة شعراء من قنا هم الشاعر عبدالرحيم منصور، الذى يكتب بالعامية، وأمل دنقل الذى يكتب بالفصحى، والشاعر عبدالرحمن الأبنودى، الذى كان اكتشافه مبكرا عن الثلاثة.

♦️ خرج الكنز إلى النور عندما نزح الثلاثة إلى القاهرة وظهرت مواهبهم للمصريين

انطلق بعدها عبدالرحيم منصور ومعه عبد الرحمن الأبنودي في إلقاء أشعارهم بالإذاعة المصرية، حيث لاقت كلماتهم إعجاب المصريين بسبب كتاباتهم البسيطة التي تصل إلى قلوب العامة بسهولة ويسر .

كتب عبد الرحيم منصور ديوانه الأول “الرقص ع الحصى” في أواخر الستينات، وقد نشره على نفقته الخاصة، وقدم مع بليغ حمدى وقتها الكثير من الأغانى لكبار المطربين والمطربات، وسطع اسمه خصوصاً أثناء حرب اكتوبر، فكانت أول وأشهر أغانى النصر من كلماته وتغنى بها أشهر المطربين والمطربات ( بسم الله الله أكبر بسم الله.. أذن وكبر بسم الله بسم الله )

وكانت هذه محطة هامة في حياته بعدها أخد بيد المطرب محمد منير إلى الشهرة وبدأ معه مشوار دام حوالي 10 سنوات .

على أن عبدالرحيم منصور لم يكن شاعرًا غنائيًا وعاميًا فقط، لكنه أيضًا شارك بالسينما المصرية والدراما التليفزيونية بمشروعات قليلة، حققت نجاحًا كبيرًا.

في عام 1977 تعاون مع الكاتبة سنية قراعة والمخرج نور الدمرداش وقدما المسلسل التليفزيوني “مارد الجبل”، إذ كتب منصور الحوار والأشعار للمسلسل، الذي لعب بطولته نور الشريف، محمود المليجي، توفيق الدقن، مصطفى ماولى، وإبراهيم نصر .

لكن تعتبر فترة الثمانينات هي الفترة الأهم والأبرز في حياة عبد الرحيم منصور حيث كتب لمحمد منير أغانى ألبومي (شبابيك) و(اتكلمى) كما وضع سيناريو وحوار وأشعار فيلم (الزمار) للمخرج عاطف الطيب وكتب كلمات ألبوم (حظوظ) للمطرب الشعبي كتكوت الأمير وكتب أول أغانى المطربين عمرو دياب وعلي الحجار ومدحت صالح ومحمد ثروت ووليد توفيق .

ليكتب القدر نهاية هذه الرحلة العظيمة بوفاته في 28 يوليو من العام 1984 عن عمر ناهز 43 عاما، بعد أنّ قدم العديد من الأغنيات والأشعار لكبار المطربين، فضلا عن أعمال فنية تنوعت بين السينما والدراما التليفزيونية.

♦️قدّم عبد الرحيم منصور الفنان الصغير محمد منير إلى الملحن هاني شنودة، في كافيه “أورلاند”

حكى “شنودة” عن هذا اللقاء قائلًا:”دخل علىّ عبد الرحيم منصور وشوقي حجاب ومعهما شاب كان محمد منير، وقدموه لي، وأحببته من الوهلة الأولى، نشأت بيننا كيميا من اللقاء الأول”.

رحل عبد الرحيم منصور مبكرًا، وكان لا يزال يكتب أغنياته لمحمد منير، وكان قد كتب أغنية “أنا بعشق البحر” لتغنيها “نجاة” رفقة “منير”، لكن غنتها “نجاة” بعد ذلك بمفردها.

أمًا عبد الرحمن الابنودي الذي ولد عام 1938 فى قرية أبنود، لأب كان يعمل مأذونًا شرعيًا هو الشيخ محمود الأبنودي، فقد انتقل إلى مدينة قنا وتحديدًا فى شارع “بنى على”، وفيه كان يستمع إلى أغانى السيرة الهلالية التى تأثر بها.

تنوعت الحالة الابداعية عند الابنودي، إلى عدة روافد فمن أشهر أعماله السيرة الهلالية التى جمعها من شعراء الصعيد ولم يؤلفها.

ورافد الكتابة اللي أخرج فيه كتاب (أيامى الحلوة) والذى نشره فى حلقات منفصلة فى ملحق أيامنا الحلوة بجريدة الأهرام تم جمعها فى هذا الكتاب بأجزائه الثلاثة، وحمل الكتاب مشاهد سينمائية التناول سلسة العرض قاسية التجسيد في بعض الأحيان، عرض فيه مشاهد ذات دلالات اجتماعية وفكرية تعكس أفكار ومعتقدات المواطن القنائي الفقير. الذي امتزجت فيه عادات الإنسان الفرعوني بالقبطي بالمسلم لتتشكل فيه حضارة متفردة في الطباع والإيمان والترفيه.

عمل الأبنودى مع عدد من أهم المطربين فى مصر منهم العندليب الأسمر عبدالحليم حافظ والفنان محمد رشدى، والمطربة اللبنانية صباح

♦️كانت اغنية “ساعات ساعات” من أشهر محطات التعاون بين الأبنودي وصباح

أول الدواوين الشعرية التى ألفها الأبنودى هو ديوان “الأرض والعيال”، الذى صدرت طبعته الأولى عام 1964.

وفى عام 1967، أصدر ديوانه الثانى “الزحمة”، ليأتي ديوانه “جوابات حراجى القط” ، ليكون باكورة أعماله الإبداعية التي واكبت أعمال بناء السد العالي.

أكمل الأبنودى خلال السبعينيات مسيرة إبداعه الشعرى، فألف عدة دواوين شعرية نذكر منها: “الفصول” عام 1970، و”أنا والناس” عام 1973، وديوان “بعد التحية والسلام” و”صمت الجرس” عام 1975، و”المشروع الممنوع” عام 1979 وغيرها.

وفى فترة الثمانينيات، حقق الأبنودى أشهر إنجازاته عندما تمكن من إصدار السيرة الهلالية فى خمسة أجزاء، والتى جميع فيها أشعار شعراء الصعيد وقصصهم عن بنى هلال. وبعدها نشر الأبنودى ديوانا “الاستعمار العربي” عام 1991، والجزء الأول من مختاراته الشعرية عام 1994.

حصل الأبنودى على جائزة النيل 2010، وجائزة الدولة التقديرية عام 2001، ليكون عصر يوم الثلاثاء الموافق 21 أبريل 2015 خاتمة رحلة عظيمة في الابداع والفن والوطنية.

أما الجنوبي، المعجون بالسحر والألم، بالجنون والشجن، بالكبرياء والشموخ، في مواقفه وأشعاره.. وبالدقة والوضوح في حديثه إلى خصومة وأنصاره، فقد ورث موهبته الشعرية عن والده الذي تأثر به بشكلٍ كبير، وتأثر جدًا بفقدانه وهو في عمر العاشرة، فكان ذاك أن أكسب أشعاره مسحةً واضحةً من الحزن طوال حياته.

♦️وُلد أمل دنقل عام 1940 في قرية القلعة بمركز قفط، في قنا، وجاء ميلاده بعد عامين من ميلاد الابنودي الذي ولد عام 1938.

عاصر أمل ثورة 1952 وتأثّر بها ،فكان لها أثّر واضح على أشعاره وكتاباته.وكان والده عالمًا من علماء الأزهر الشريف،يمتلك مكتبةً ضخمةً ضمت الكثير من أمهات كتب الفقه والشريعة والتفسير وذخائر التراث العربي والمعلقات السبع كاملة، ما كان لها عظيم الأثر في تشكيل اللبنة الأولى لهذا الأديب والشاعر الكبير.

أطلق عليه والده اسم “أمل” بسبب النجاح الذي حققه الوالد بعد ولادة أمل في نفس السنة التي حصل فيها الوالد على الإجازة العالمية.

صدرت للرائع أمل دنقل ست مجموعات شعرية هي: البكاء بين يدي زرقاء اليمامة، بيروت 1969، تعليق على ما حدث، بيروت 1971، مقتل القمر، بيروت 1974، العهد الآتي، بيروت 1975، أقوال جديدة عن حرب بسوس، القاهرة 1983، أوراق الغرفة 8، القاهرة 1983، ثم “اجازة فوق شاطئ البحر”.

أصيب امل دنقل بالسرطان، وعانى منه لمدة تقرب من ثلاث سنوات وتتضح معاناته مع المرض في مجموعته “أوراق الغرفة 8” وهو رقم غرفته في المعهد القومي للأورام والذي قضى فيه ما يقارب الأربع سنوات.

وقد عبرت قصيدته السرير عن آخر لحظاته ومعاناته، وهناك أيضاً قصيدته “ضد من” التي تتناول هذا الجانب، على أن آخر قصيدة كتبها أمل دنقل قبل وفاته كانت هي “الجنوبي”.

وقد ظهر فيها تعاطفه الشديد مع الجنوبي وانينه على مواطن من بني جلدته فاجأه المرض.. فكتب عنه أمل:-

” عندما احتقنت لوزتاه،
استشار الطبيب وفي غرفة العمليات لم يصطحب أحداً غير خف وأنبوبة لقياس الحرارة.
فجأة مات !
لم يحتمل قلبه سريان المخدر وانسحبت من على وجهه سنوات العذابات
عاد كما كان طفلاً
سيشاركني في سريري وفي كسرة الخبز، والتبغ لكنه لا يشاركني .. في المرارة. وجه ومن أقاصي الجنوب أتى، عاملاً للبناء كان يصعد “سقالة” ويغني لهذا الفضاء كنت أجلس خارج مقهى قريب وبالأعين الشاردة كنت أقرأ نصف الصحيفة والنصف أخفي به وسخ المائدة لم أجد غير عينين لا تبصران وخيط الدماء. وانحنيت عليه أجس يده قال آخر : لا فائدة صار نصف الصحيفة كل الغطاء و أنا … في العراء”.

♦️توفي أمل دنقل في 21 مايو عام 1983م عن عمر 43 عام، في ريعان شبابه، تمامًا في نفس عمر عبد الرحيم منصور الذي توفى بعده بعام في 28 يوليو من العام 1984، عن عمر 43 عام أيضًا

فيستكمل الأبنودي من بعدمها المسحة القنائية في الابداع لسنوات طويلة انتهت بوفاته عصر يوم الثلاثاء الموافق 21 أبريل 2015

لتنتهي رحلة عظيمة في الابداع والفن والوطنية، لثلاثة من خيرة ما أنجبت قنا

أشرف رشاد

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!
إغلاق
إغلاق