انتهت بأسر ملك فرنسا.. أشرف رشاد يكتب عن دور “أبوالحسن الشاذلي” في معركة المنصورة
هب مع رهطٍ من أتباعه وتلاميذه وأصحابه إلى مدينة المنصورة لرفع راية الجهاد ضد الحملة الصليبية
يغبطني البعض من أصدقائي السياسيين غير القنائيين، على ثراء المنطقة التي أتيتُ منها، خاصة عندما يطالعون بعضًا مما أكتبه عن قنا التاريخ، وقنا الجغرافيا، وقنا السياسة، وقنا التقاليد، وقنا التصوّف، وحقيقةً.. فإنني كلّما قلبتُ كتب التاريخ والسياسة والثقافة والشعر والأدب والتصوّف في حديثها عن مصر لم أجدها تخلو مرة من ذكرٍ لـ”قنا”.
حتى أن أحدهم حينما راح يذكّرني بمحاسن مدينة المنصورة في دحرها المحتل، وأسرها قائد الحملة الصليبية لويس التاسع، فتحتُ كتاب التاريخ لأجد لمحافظتي قنا بصمة في هذا النصر، إذ كان لإبن مدينة قوص ورمزها وشيخ الإسلام في عصره مولانا “بن دقيق العيد” بصمة في هذه المعركة مع نخبة من أهل الله، أكابر التصوّف الذين قادوا شُعلة الجهاد في تلك المعركة، ومن بينهم وعلى رأسهم سيدي أبوالحسن الشاذلي.
وفي هذا المقال، فإنه وإن كان يجب أن يكون موضوعه، الإبحار في عالم مولانا محمد بن علي بن وهب بن مطيع بن أبي الطاعة القشيري القوصي، أبو الفتح تقي الدين، المعروف بابن دقيق العيد ، الشيخ الحافظ الفقيه المحدث البارع، إلا أنني وجدتُني منزوعًا من إرادتي إلى رحاب الفضل منه ان اكتب عنه سيدي ومولاي أبو الحسن علي بن عبد الله بن عبد الجبار الشاذلي المغربي، ساكن حميثرا.
يقول الشيخ تقى الدين بن دقيق العيد في ذلك : ” لقد حضرت معركة المنصورة مع الشيخ أبى الحسن الشاذلي وما رأيت أعرف بالله منه”
ففي معركة المنصورة، التي دارت رحاها بين 8 و 11 فبراير من سنة 1250ميلادية، بين القوات الصليبية (الفرنجة) بقيادة لويس التاسع ملك فرنسا، الذي عُرف بعد ذلك بالقديس لويس، وبين القوات المصرية الأيوبية بقيادة الأمير فخر الدين يوسف بن شيخ الشيوخ، وفارس الدين أقطاي الجمدار، وركن الدين بيبرس البندقداري، وأسفرت عن هزيمة الصليبيين هزيمة كبرى، هزيمة منعتهم من إرسال حملة صليبية جديدة إلى مصر بعد وقوع الملك لويس التاسع أسيرًا في قبضة المسلمين.
كانت هذه المعركة هي نقطة البداية التي أخذت بعدها الهزائم تتوالى على الصليبين حتى تم تحرير كامل الشام من حكمهم.
من الجهة الأخرى في كتاب التاريخ وعندما حضر شيخنا سيدي أبو الحسن الشاذلى رضى الله تعالى عنه إلى الديار المصرية، تفاعل مع أهم مشكلة فى مصر وقتها، ألا وهي مشكلة الغزو الصليبى لمصر، وكان المصريون جميعا فى ذلك الوقت فى همٍ عظيم.. يترقبون نتائج الحرب بنفوس ملؤها الهلع والخوف، وكانت الأنظار كلها تتجه إلى مدينة المنصورة مقر معركة الدفاع الكبرى عن الأمة.
وقتها فزع سيدي أبو الحسن الشاذلى رضى الله تعالى عنه مع رهطٍ من أتباعه وتلاميذه وأصحابه إلى مدينة المنصورة لرفع راية الجهاد ضد الحملة الصليبية بقيادة لويس التاسع الذي تككلت معركة الأمة وقتها بأسره، وحبسه فى دار ابن لقمان.
وليس أدل على عناية واهتمام الشيخ أبى الحسن الشاذلى رضى الله تعالى عنه بفريضة الجهاد فى سبيل الله عز وجل، من ذلك الموقف الجليل الصارم، الذى اتخذه تجاه قاضى الإسكندرية الفقيه ناصر الدين بن المنير، بسبب تخلف بن المنير عن الخروج معه للجهاد فى المنصورة، وترتب على ذلك حصول جفوة بين سيدي أبى الحسن الشاذلى رضى الله تعالى عنه، وبين بن المنير، استمرت هذه الجفوة إلى أن انتقل سيدي أبو الحسن رضى الله تعالى عنه إلى الرفيق الأعلى، بعدها سافر بن المنير إلى ضريح سيدي أبوالحسن رضى الله تعالى عنه واعتذر عنده.
وحتى نقف على مشاركة سيدي أبو الحسن الشاذلى رضى الله تعالى عنه، للشعب المصرى فى جهاده ضد الغزاة والمستعمرين، ووقوفه مع المجاهدين ونفر من العلماء والفقهاء لميدان المعركة ليبعث فى الجند روح الجهاد وحلاوة الإيمان في تلك المعركة الميمونة، فإنه يجب أن نفتح كتاب “لطائف المنن” لمولانا بن عطاء الله السكندرى، إذ قال فيه: ” أخبرنى الشيخ مكين الدين الأسمر قال : حضرت فى المنصورة فى خيمة – فى معسكر القتال – فيها : سلطان العلماء عز الدين بن عبد السلام، والشيخ تقى الدين بن دقيق العيد، والشيخ مجد الدين على بن وهب، والشيخ محى الدين بن سراقة، والشيخ مجد الدين الأخميمى، والشيخ أبو الحسن الشاذلى، وهم يقرؤون رسالة القشيرى”
كان يقود جيوش المسلمين فى هذه المعركة الظاهر بيبرس البندقدارى وفارس الدين أقطاى، فى عهد الملك توران شاة ابن الملك الصالح أيوب،
ولما وصلت أخبار نزول الفرنجة بفارسكور إلى معسكر المنصورة، سارع الأمير فخر الدين ابن شيخ الشيوخ بإبلاغ القاهرة بتلك الأخبار، فى رسالة من إنشاء الكاتب الشاعر بهاء الدين زهير، يحض فيها الناس جميعا على الجهاد، افتتحها بالآية القرآنية الكريمة : (انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا فى سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلك خير لكم إن كنتم تعلمون) وقرئت هذه على الناس فى صلاة الجمعة بالجامع الأزهر الشريف.
وكان لهذه الرسالة أثرها في نفوس المصريين إذ أوضحت للناس ضرورة تقديم كل المساعدات الممكنة للقوات المصرية المدافعة عن المنصورة، حتى تستطيع هذه القوات المقاومة والثبات ضد الزحف الصليبى الغاشم.
وقتها كان لسيدي أبى الحسن الشاذلى الدور البارز والأثر الكبير، فى تعبئة المجاهدين للجهاد فى معركة المنصورة فقد هب داعيا الناس إلى الجهاد والنفير العام، وكانت طبول الحرب تدق بين يديه في موكب يضم كبار أئمة الدين في عصره، ومنهم سلطان العلماء العز بن عبد السلام، وإمام المحدثين الشيخ زكي الدين المنذرى، ومكين الدين، وطبعًا بن قوص وفخرها وعزّها ونورها سيدي بن دقيق العيد، الذي شارك مع رهط يضم كوكبة من أبناء قوص وقنا وحواضر بلدان الصعيد، فضلًا عن الجماهير الهائلة من بقية الأقطار المصرية.
ولقد أثار خروج سيدي أبى الحسن الشاذلى لساحة الجهاد حماس المسلمين وغيرتهم،من أهل مصر فتابعه الآلاف يخرجون إلى كفاح الصليبين بأموالهم وأنفسهم، وقد اتخذت كل بلدة أو أسرة راية لها، تعرف بها، ويتجمع تحتها رجالها.
وقد أثمر تواجد سادات الوقت وكبرائه من المتصوفة الأكابر وعلماء الدين، جنبا إلى جنب مع جند المسلمين ورجال المقاومة،عن شد أزر المجاهدين، وإذكاء روح التضحية والفداء، بل كان لوقوف سيدي أبوالحسن وركبه بجوار القادة، بالغ الأثر الطيب فى تقوية عزيمة الأمة، وثقتها فى قادتها، وتأييد الله تعالى لهم.
ويروي المؤرخ الفرنسي “جوانفيل” الذي رافق الحملة الصليبية، أن المسلمين كانوا يتسللون أثناء الليل إلي المعسكر الصليبي ويقتلون الجنود وهم نيام ويهربون بروؤسهم، ويذكر المؤرخ ابن أيبك الدوادارى أن الصليبيين كانوا يخافون من العوام المتطوعين أكثر من الجنود، والعوام المتطوعون هنا هم أتباع أخل الله الصوفية.
ويصف لنا المقريزى ذلك قائلا :”فلما كان يوم الاثنين من شهر ربيع الأول، وصل إلى القاهرة من أسرى الفرنج الذين تخطفهم العرب ستة وثلاثون أسيراً، منهم فارسان، وفى خامس شهر ربيع الآخر، وصل سبعة وثلاثون أسيراً، وفى سابعه وصل اثنان وعشرون أسيراً، وفى سادس عشر، وصل خمسة وأربعون أسيراً، منهم ثلاثة من الخيالة، ووصل في ثامن عشر جمادى الأولى خمسون أسيراً، وفى ثالث عشر شهر رجب، وصل إلى القاهرة سبعة وأربعون أميراً من الفرنج، وأحد عشر فارساً منهم “
تعددت مواكب أسرى الصليبيين في شوارع القاهرة على نحو زاد من حماسة الناس، ورفع معنويات المقاتلين إلى السماء.
ممن ذلك كله يتبدى لنا كيف أن التصوّف لم يكن ساحة وطعام، ولا تواشيحًا وأنغام، لقد كان أئمة التصوف و العلماء جنبا لجنب مع الأهالى والجنود فى ساحة الجهاد، فلم يستقر هؤلاء العلماء فى ساحاتهم بعيدًا عن الخطر، وإنما هبوا جميعا للجهاد فى سبيل الله، لقد هاجروا إلى المنصورة ليكونوا بين المجاهدين، وبرغم أن العارف بالله سيدي أبا الحسن الشاذلى رضى الله تعالى عنه كان فى آخر حياته، وكان قد كُف بصره، إلاأنه كان فى مقدمة الفارين إلى المنصورة يلهب حماس المجاهدين، ويحرك قلوبهم، وينادى بالشهادة، وينادى ببيع النفوس لله تعالى، الذى اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة.
وثمة ملمح آخر، يتجلى لنا من خلاله، حرص واهتمام الإمام الكبير، والصوفى المجاهد، سيدي أبى الحسن الشاذلى، بأمر الإسلام والمسلمين، فمن أداب الصوفية وأخلاقهم الاهتمام البالغ بأمر المسلمين، وقد استقى الصوفية هذا الأدب العظيم، وهذا الخلق الكريم من القبس النبوى الشريف،الذى رواه حذيفة رضى الله تعالى عنه، عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال :”من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم”.
أردتُ هنا في مقالي هذا أن اتناول جانبًا في حياة سيدي أبوالحسن الشاذلي قد لا يرد كثيرًا الكلام فيه بين أجبابه وانصاره واتباعه ومحبيه، فدلفتُ إليه مذكرًا بالدور الجهادي لساكن حميثرا في معركة المنصورة وأسر قائد جيوش الصليبين لويس التاسع.
أشرف رشاد