في الذكرى الأولى لرحيل د. نصر الله معوض .. نعيد نشر تدوينة أحد تلاميذه في سيرته
كتب: جاد مسلم
في مثل هذا اليوم من العام الماضي، فقدت جامعة جنوب الوادي بقنا وكلية التربية تحديداً ابنها البار د. نصرالله محمد محمود معوض، الذي كان أصغر مَن تولّى عمادة الكلية، وكتب عنه تلميذه، الصحافي بجريدة الأخبار، ابن قنا عبدالصبور بدر، في يوم وفاته تلك الكلمات في تدوينه على موقع التواصل الإجتماعي تناقلتها المواقع والصحف، فقد كشفت في أسلوب جذاب عن حياة مجدد في منصب العمادة لكلية التربية بقنا.
“الشارع القنائي” بعيد نشر التدوينه في ذكرى وفاته الأولى .
“في أوائل التسعينيات شهدت قنا ظاهرة عجيبة بطلُها رجل في بدايات الأربعين من عمره، تم تعيينه عميداً لكلية التربية بقنا، أول شيء فعله، وضع بدلته على الشمّاعة خلف مكتبه، وارتداء ملابس رياضية و”كوتشي”!
في ملعب الكرة بالكلية، كان بإمكانك مشاهدة العميد الجديد يشارك الطلاب مبارياتهم في الصباح، أو بجانبهم على الكافيتريا في الظهيرة يلقي النّكات ويضحك معهم دون أن تهتز هيبته أو يفقد شيئاً من وقاره، وفي المساء يشرف على الفرقة المسرحية باعتباره المخرج، ويوجّه تعليماته للممثلين بابتسامة تكشف عن أسنان بيضاء لرجل لا يدخن.
في الدور الأول من مبنى الكلية (قصر الملك فاروق سابقاً) كان يقع مكتب العميد، إذا كنت طالباً يمكنك الدخول إليه في أي وقت بلا استئذان من مدير مكتبه، فقط تضع يدك على “أوكرة” الباب، لتجد نفسك أمامه، تقول له ما تريد، أما إذا كنت عضواً في هيئة التدريس، أو مسؤولاً في الكلية، فإن الأمر يستلزم أن تنتظر بعض الوقت، حتى يُسمَح لك بالدخول.
لذات مرة دخلت على مدير مكتبه وأنا أسأله: العميد موجود فقال لي: نعم. وقبل أن أضع يدي على “الأوكرة” وجدت أحد الدكاترة يقف غاضباً، وهو يقول لمدير المكتب: “أنا بقالي ساعة.. وده لسة جاي.. إزاي يدخل قبلي”؟
نظر إليه مدير المكتب قائلاً: ده طالب يدخل في أي وقت
– يعني إيه طالب؟
– أوامر العميد يا دكتور.
من الثامنة صباحا وحتى العاشرة مساء كل يوم، كان الطلاب يمارسون أنشطتهم المختلفة، لاعبو الكرة يتقافزون على المستطيل الأخضر، والجوّالة ينصبون الخيام، والشعراء يجلسون في الندوات التي يأتي إليها كبار المبدعين في مصر، وهواة التمثيل يجسّدون أدوارهم على المسرح، والمبدعون يكتبون في العديد من المجلات المعلّقة والمطبوعة، وكل هذا يمضي جنباً إلى جنب مع المحاضرات في المدرجات.
الطلاب الفقراء لم يكن عليهم إزعاج أولياء أمورهم بمصاريف الكلية، العميد كان يوفّر لهم ما يحتاجونه من مذكرات مجاناً، وحتى يضمن وصول الدعم لكل شخص منهم منعه الحرج من الذهاب إليه، كان يزرعنا نحن (أعضاء اتحاد الطلاب) لننقل إليه أسماءهم، فيرسل إلى كل دكتور ورقة صغيرة مكتوب فيها: رجاء إعطاء حامله مذكرة كذا، وإذا حدث وامتنع أحدهم عن منح المذكرة لطالب، فعليه أن يتحمل ثورة العميد!
أما الذين يعانون ظروفاً صعبة، وفي حاجة ماسّة إلى إعانات عاجلة، فقد كان العميد يوجه ورقة إلى “رعاية الشباب” يكتب فيها “رجاء إعطاء حامله مبلغ كذا”، ويتم صرف المبلغ للطالب في الحال.
في عهده، كان من النادر أن تخلو ليلة من أمسية، أو حفلة فنية، أو ندوة ثقافية، أو لقاء أحد الضيوف الكبار من نجوم المجتمع، أو احتفال خاص بمناسبة، أما العميد فقد كنت تراه في كل مكان داخل الكلية، كأنه رجل من أهل الخطوة، يشرف ويشارك – حتى – العمال ما يقومون به.
في ذلك الوقت كانت كلية التربية بقنا هدفاً لوسائل الإعلام، إذاعة وتلفزيون، إضافة إلى كبريات الصحف التي تبعث مراسليها لتغطية الأنشطة المتنوعة، وفور ظهور العميد في حفلة على مسرح الكلية، كان الطلاب يصفقون وهم يهتفون باسمه:
نصرالله.. نصرالله.. نصرالله، وكان ينحني في تواضع مشيراً لنا بيده أن نتوقف، ولا نتوقف، فيبتسم تلك الابتسامة التي تملأ قلوبنا بالمحبة والرضا لرجل منحنا أبوّة خالصة.
شيء واحد اختفى من الكلية، ولاحظ الجميع غيابه في عهد الدكتور نصرالله معوض … التطرُّف”.