أشرف رشاد يكتب: الشيخ الذي احترف العمل السياسي فأصبح شيخ الساسة وضمير العامة
في فترة ما من حياتي، كنتُ أرى أن مفردة “السياسة” هي وفقط مرادفة لكلمة أخرى هي “الصراع” وعلى تلك المفردة.. فالسياسي لابد وأن يلعب بالبيضة والحجر، من ذلك رأيتُ وقتها أن أهتم بمستقبلي المهني بعيدًا عنها، حتى جمعتني في صباي جلسة بأشياخي في مجتمع الأشراف، وهم يتحدثون عن نجمهم الأبرز في العمل السياسي، من وقتها أصبح مُلْهمي في الحياة.
أبدًا لا يجب أن تكون السياسة كذلك.. حتى وإن كانت كذلك، فلابد لتطويع هذا الصراع – أي صراع- لتكون غايته في النهاية هي الإرتقاء بالمجتمع الذي ننتمي إليه، عائلةً كانت.. أو قبيلة، قرية.. أو حي، مدينة.. أو محافظة.. أو إقليم.. أو جميعهم أجمعين في هذا البلد العظيم الذي ننتمي إليه، فالسياسي هو صورة من نفسه أمام نفسه والناس.. وأمام الله، خاصة بعدما تأملتُ سيرته الذاتية والسياسية في الدين والسياسة.. والحياة.
فكيف لرجل دين من هيئة كبار العلماء في الأزهر الشريف، حافظ لكتاب الله على قراءاته السبع، وخطيب في كبرى مساجد قنا، أن يدخل المعترك السياسي ؟!
إذن فالسياسة ليست شرًا، وإن لم تخلُ منه، بل إن السياسة يمكن أن تكون مسارًا لتطويعه، لمواجهته ومجابهته، بل وأن تكون غاية للإصلاح في الأرض، من هنا.. ومنه عليه رحمة الله.. أدركتُ أن العمل السياسي، يمكن بل ويجب أن يكون نبيلًا في ممارسته وإدارته بما فيه خير الناس والبلاد.
من تلك اللحظة، وضعته نبراسًا أمامي، يُضيئُ بتاريخه الرائع بوصلتي في الحياة، عن مولانا الشيخ حسن النجار أتكلم.
في العام 1906 وفي قرية المخادمة، كان مولده، وفيها وعلى يد مشايخها حفظ القرآن الكريم وأتقنه بقراءاته السبع، ثم حصل على الإجازة العالمية من الأزهر الشريف، وفيه أصبح عضوًا بهيئة كبار العلماء، تخرج من تحت يديه وهو الرجل الأول في المديرية الأزهرية بقنا أكابر العلماء والصالحين، على رأسهم فضيلة العالم الجليل مولانا الشيخ أحمد الطيب شيخ الأزهر، وشقيقه الشيخ محمد الطيب، وشيخنا الشيخ محمد مسعود الزليتني، وشيخنا الشيخ زين العابدين أحمد رضوان، وأجيال تعقب أجيال نهلت من فيض علمه الوفير.
أبدًا إن السياسة لا يجب إلا أن تكون ميدانًا للمنافسة على الخير، وإصلاح المجتمع، والإرتقاء بأحوال البلاد والعباد، هذا ما كان عليه شيخنا العالم الجليل الشيخ حسن النجار، وما يجب عليه جميعًا أن نكون، فيه كانت وما تزال أسوتنا، ومنه وبه نسترشد ونستنير.
الشيخ حسن النجار لم يكن فقط رجل دين أكاديمي حصر مسيرته الدينية والدنيوية فقط بين الكتب والدين، لا.. كان رجٌل يحب أن يشتبك مع واقعه بما أفاض الله عليه من علمٍ ودين، وفي رسالته تلك أخرج إلى المكتبة الإسلامية العديد من المؤلفات والكتب الدينية الجامعة، والتي تبرع بها قبل وفاته إلى كلية الدراسات الاسلامية بالأزهر الشريف، وكان يشتبك مع الواقع السياسي للبلاد، تارة بالإشادة فيما تجب فيه الإشادة، وتارات بالنقد الشديد فيما يجب أن يكون فيه النقد والنقد الشديد، ومن ذلك، أنه أثناء ممارسة العمل السياسي بجامعة الأزهر القي فضيلة الشيخ حسن النجار خطبة انتقد فيها الملك بشدة، فكانت سببًا في محاكمته أمام القضاء في القضية التي عُرفت وقتها بقضية سب الذات الملكية عام ١٩٤٢.
ولأنه نتاج مؤسسة دينية في عصرها الذهبي المستنير، فقد شكّل وهو رجل دين مسلم مع مكرم باشا عبيد وهو الرائد القبطي الكبير واحدة من أبهر صور الوحدة الوطنية في قنا، في تحالف انتخابي عام 1945 فازا فيه معاً بعضوية مجلس النواب (1945-1950) على ما بين الانتمائيين من شقاق، فالشيخ حسن النجار ينتمي إلى الهيئة السعدية المُنشقّة عن الوفد، ومكرم باشا عبيد ينتمي في تلك اللحظة إلى حزب الوفد، لكن مبادئ الوحدة الوطنية عندهما علت على الانتماء الحزبي، خاصة وأن ما يربط بينمها أكبر بكثير من الشقاق الحزبي بين الهيئة السعدية وحزب الوفد، فالشيخ حسن النجار من قادة حركة الاستنارة في الأزهر الشريف، ومكرم باشا عبيد من أشهر مفكري الأمة الأقباط، وما يجمعهما في المحيط الفكري والسياسي يكاد يصل حد التطابق.. ومن ذلك قول مكرم باشا عبيد: “اللهم يا رب المسلمين والنصارى اجعلنا نحن المسلمين لك وللوطن أنصاراً، واجعلنا نحن نصارى لك، وللوطن مسلمين”.
والمتأمل لحركة الهيئة السعدية يجد أن أهم أسباب قيامها وانشقاقها عن حزب الوفد ضد تصرفات مصطفى النحاس رئيس الوفد وقتها، إنها اعتبرت النحاس باشا قد انحرف عن مبادئ الليبرالية التي أرسى قواعدها سعد باشا زغلول، أرأيت؟ الشيخ حسن النجار لم يكن رجل دين منغلق أو رجعي، بل كان في أبهى صور رجل الدين المستنير، الذي لم ير الليبرالية خروجًا على صحيح الدين كما حاولت وتحاول أن تسوّق لذلك جماعة الإخوان الإرهابية على مدار عدة عقود مضت، ومن ظواهر ذلك أن تجد واحدًا من أهم تلامذة الشيخ حسن النجار أيضًا هو المفكر الكبير رشدي فكّار الذي يُعد واحدًا من أهم أساتذة المدرسة الفكرية الإسلامية التي كانت تطالب بحسن التعامل مع الغرب واطروحاته الفكرية.
كرجل دين وكسياسي لم يكن الشيخ حسن النجار من أنصار الإنغلاق الفكرى والإنطواء على النفس، كان يؤمن بتلاقح الحضارات والحوار بينها.
كان رحمة الله عليه مدرسة للدين والأخلاق والأفكار والتنوير طوال حياته التي انتهت بوفاته عام ١٩٩٦.رحمة الله وبركاته على أحد أعلام السياسة والتنوير في مصر عمومًا وفي قنا على وجه الخصوص.. رحمة الله على مولانا فضيلة الشيخ حسن النجار
أشرف رشاد